8 أكتوبر 2012

اللامنطقية فى الحوار الإسلامى المسيحى


جيروم وإقتباس القديس مرقس

منطقية الأمانة عند "مولكا"

تعد مشكلة الإقتباس الموجود ببداية إنجيل مرقس والمعنون بإسم النبى إشعياء رغم ان شطره الأول ليس من إشعياء وإنما هو من ملاخى هى واحده من المشاكل النصية الشهيرة بين علماء النقد النصى ، مشكلة هذا الإقتباس ذات ابعاد متشابكة ما بين فساد نصى وتاريخى مروراً بآليات النقد النصى الحديث ومدى فاعليتها فى تفسير كيفية وقوع الإختلافات النصية بين "إشعياء" و "الأنبياء" وتقديم الإجابة على السؤال النمطى حول متى وكيف ولماذا ومن حرف الكتاب المقدس.

فى إطار قراءتى للإختلافات النصية بإنجيل مرقس حول تأصيل مفهوم الفساد بالمخطوطات فإن من الأبحاث (او لنكن اكثر وضوحاً يقال عليها ابحاث) التى وقعت بين يدى كانت رد "مولكا" على البحث القوى للزميل "التاعب" والذى قدمه بعنوان: "التفسير والنقد النصي يؤكدان عصمة ووحي وثبات الكتاب المقدس".
كان الزميل "مولكا" قد قدم قبل هذا العنوان تعريف البحث قائلاً: " دراسة مبسطة حول إفتتاحية بشارة القديس مرقس الرسول (مرقس 1: 2-3) والرد على الشبهات المتعلقة بهذه الآبيات فى الجانب النصية والجانب التاريخي وجانب عصمة كتبة الوحي والتفسير الصحيح للآيات المقدسة"

خلاصة البحث كانت نقل مسطرة لـ 80% (فى الواقع أكثر من 90%) لبحث الأخ التاعب و"مولكا" نفسه اقر بذلك ص18
بالإضافة الى 14 صفحة عن الإسلاميات !!! اى ما يقرب من 24% من إجمالى البحث ذاته (59 صفحة إذا لم نهمل المقدمات والفوارغ والصور)
ببساطة 80% هو أصل بحث الزميل "التاعب" منقول كما هو حرفياً و 24% إسلاميات .... ماالذى كتبه "مولكا" اذاً ؟!

بعيداً عن تحليلات "مولكا" الضعيفة جداً كما سأبين إن شاء الله فى وقتها وبعيداً عن الأخطاء الحقيفة سواء أكانت (نقلاً او رداً) والتى وقع فيها فإن الغرض من كتابة هذه التدوينة هو التعليق على نقطة هامة أثارها "مولكا" فى معرض تعليقه على بعض كلمات للزميل "التاعب".

حيث يقول "مولكا" ص43 ما نصه:

واقعياً فإنى قد حاولت جاهداً فهم الرابط بين (البلوى) عند "مولكا" والمقصود بها علم الرجال وبين ما نحن نتحدث فيه !! ... لكن خلفيات واقع الحوار مع المسيحيين تفيد دوماً بأن ميل المسيحى الدائم الى حشر "الإسلاميات" فى ردوده تعنى بالضرورة انه لا يجد ما يقوله.
فعلياً فإن إعتراض الزميل "التاعب" كان كالحجر الكبير الذى قذف فى ماء النقد النصى الراكد ... فإذا كان القديس جيروم يعتبر قراءة "إشعياء" من فعل النساخ فلماذا هى ثابته فى ترجمته الفولجاتا بدون خلاف يذكر؟

رد "مولكا" اللامنطقى كان هو السبب فى هذه التدوينه ...
فـ "مولكا" إعتبر التناقض بين إنكار القديس جيروم لصحة قراءة "إشعياء" وبين إثباته لها فى ترجمته هو دليل:
1- الأمانة 
2- الوضوح والشفافية
3- الصيانة والحفظ - عدم التحريف -

وما أغربها من (خزعبلات) خصوصاً البند الثالث من إعتبار ان إقدام القديس جيروم على تغيير قراءة "إشعياء" الى "الأنبياء" التى من المفترض انه يعتبرها القراءة الأصح (وهذا لا دليل عليه)  هو نحريف للنص وطبعاً القديس جيروم لم يقوم بذلك لأنه أمين فى نقله!!!

بداية فإن اى طالب علم فى الدراسات الكتابية بعلم جيداً ان نسخة الفولجاتا ليست مجرد ترجمة نقليه كما يزعم "مولكا" وإنما هى نسخة تنقيحية كما اقر بذلك القديس جيروم بنفسه فى مقدمته للأناجيل قائلاً: - Jerome's Preface to the Gospels
(( لو كان الإيمان مداره على الترجمة اللاتينية ، فعليهم ان يخبرونا عن ايها، لأنها كثيرة كعدد الكتب. على كل الأحوال فلو كانت الحقيقة هى البحث خلال الكثرة فلما لا نعود الأن الى الأصول اليونانية لتصحيح هذه الأخطاء والتى اما خطأ من المترجمين او من المراجعات الخاطئة لغير المهرة او من خلال النساخ النائمين إما بالإضافة او بالتغيير؟ ))

  وفى موضع أخر يتحدث عن ترجمته على انها نتاج إستعادته للشكل الموثوق من الأصل اليونانى حيث يقول: 
Letter of St. Jerome to Lucinius 71:5
(( The new testament I have restored to the authoritative form of the Greek original ))


وعلى ذلك فإن كلام القديس جيروم عن خطأ النساخ فى تلك الحالة غير معتبر لأنه لو كان يملك مخطوطات بين يده تحوى قراءة "الأنبياء" لأثبتها فى نصه لأنه لا يقدم ترجمة حرفية ولكنه يقدم نص تصحيحى لأخطاء النساخ والمترجمين ... فكيف يقر خطأ الناسخ ويعترف به ثم يثبته ببساطة فى نصه إذا كان لديه فعلاً ما يفيد بعكس ما نص عليه !!


الأمر الثانى ألا وهو ان القديس جيروم لم يشر أصلا الى وجود قراءة "الأنبياء" بل يجب ان نضع إحتمالين لا ثالث لهما وهو ان تخطئه القديس جيروم لقراءة "إشعياء" مداره على ان الإقتباس لا يوجد به فى الأصل إسم نبى ولا إشاره الى الأنبياء او ان الإقتباس كان بإسم "ملاخى" ثم عدله النساخ الى "إشعياء" لشهرة الأخير.
حيث ان كلام القديس جيروم نفسه يشهد وبقوه الى انه لم يكن يتحدث عن قراءتين امامه وإنما يتحدث عن قراءة وتفسير وجود هذه القراءة .. ففى تعليقه على انجيل متى أشار بشكل اوضح الى رايه الشخصى فى تلك القضية النصية قائلاً:
(( رأيى هو إما ان إسم إشعياء إضيف من قبل النساخ بالخطأ او على الأقل انها وحده واحده تم إنشاءها من عده شهادات نصية. إقرا المزمور الثالث عشر لترى هذا المعنى ))


وهو ما يعنى ان القديس جيروم لم يكن يملك اى ادله حقيقية بين يديه تشير الى عدم صحة قراءة "إشعياء" ، فلا هو أشار الى وجود قراءة اخرى باى مخطوطات على الإطلاق كما هو حال اشارته الى المخطوطات من حيث الكمية والزمنية فى تعليقاته النصية - يراجع Explicit References in the Works of Jerome to Variant Readings - ولا هو اوضح سبب طرحه لنظرية خطأ النساخ ، خصوصاً وان هذه النقطة تحديداً تهدم بقوه مقوله "مولكا" : مقتنع تمام الإقتناع، فمقوله القديس جيروم عن خطأ النساخ ليست من قناعته الشخصية وإنما هى منقوله عن يوسابيوس القيصري فهذا الرأى فى الأصل هى رايه !!

الأمر الثالث والأهم هو ان نفهم سبب رد القديس جيروم من الأصل وما هى رؤيته الحقيقية فى مثل هذه المشاكل وأعنى هنا مشاكل الإقتباسات النصية من العهد القديم لدى كتبة العهد الجديد.
سواء أكان فى رسالته الى pammachius او فى تعليقاته على إنجيل متى فإن القديس جيروم لم يكن يتعرض لمشكلة نصية بقدر ما كان يتعرض لمن يفسر سلبيات وآثار تلك المشكلة النصية ... ونعنى هنا الهراطقة وتحديداً Porphyry.
ففى نهايات القرن الثالث كتب الأخير  15 كتاباً بعنوان ضد المسيحية لم يتبق منها شيئاً إلا من خلال إقتباسات بعض الآباء كيوسابيوس وغيره وذلك نظراً لإدانه الكنيسة لتلك الكتابات وتقرر حرق كل نسخها عام 448م. 
إقتباس مرقس 1-2 كان من ضمن الفقرات التى أشار اليها Porphyry للدلالة على ان كتبة الإنجيلين أناس غير ذى معرفة وغير مؤهلين.
من هنا كان سؤال وجواب القديس جيروم للمدعو "المفترض الجاهل" والمقصود به Porphyry

القديس جيروم فى تعرضه عموماً للرد على تلك القضايا كان من خلال أمرين:
1- الأول هو حل تبسيط القضية من خلال إتهام النساخ وطرح بعض البيانات الكاذبة والغير قابلة للتحقيق فى الوقت الحالى
هذا الحل السحرى عند البعض هو ما أقر حقيقة وقوعه القديس اغسطينوس (The Harmony of the Gospels, Book III, Chap 7) عند تعرضه لقضية إقتباس متى 27-9 ، عندما اشار الى ان البعض قد يتخذ وسيلة الزعم الكاذب بعدم وجود القراءة فى جميع المخطوطات او وجود قراءة أخرى ببعض المخطوطات وتفسير ذلك بأنها الأجدر بالإتباع.
 القديس جيروم فعلياً كان ممن استخدموا هذا الاسلوب وذلك فى الرد على Porphyry حينما أعترض الاخير على مصداقية إنجيل متى من خلال قراءته لنص متى 13-35 على انه إقتباس من إشعياء، حينها فإن القديس جيروم لم يصحح القضية على انه خطأ النساخ فحسب وإنما أقر بأن القراءة الأصلية بالمخطوطات هى "إساف". الطريف فى الأمر هو ان قراءة "إساف" لا توجد اليوم فى اى مخطوط بالعالم كله ولا حتى الفولجاتا نفسها !!! فهل ضاعت القراءة الأصلية ؟!

2- الثانى وهو انه يتوجب علينا الا ننظر الى الكلمات فى ذاتها وإنما ننظر الى معانيها بغض النظر عن الكلمات المستخدمة.
ففى مناقشته لمشكلة إختلافات الفاظ وكلمات إقتباسات الإنجليين من العهد القديم أشار القديس جيروم الى ان القضية التى عنى بها الإنجليين كانت:
(( إعطاء المعنى بدلا من الكلمات وإنهم لم يعطوا إهتماماً كبيراً لترتيب الكلمات ولا التعبيرات طالما كان بمقدورهم تبسيط الموضوع للفهم ))

فسواء أكانت القراءة "إشعياء" او حتى "التكوين" فالغاية ليست اللفظ بقدر ماهو مضمون الموضوع ... هذا النظرة بسطها العالم "كريج إيفانز" قائلاً:
Patristic Interpretation of Mark 2:26 - Craig a. Evans p185
(( يؤمن جيروم بأن إحساس الكتابات المقدسة دائماً صحيح، حتى ولو كانت الكلمات فعلياً فى ذاتها غير صحيحة او غامضه او فى بعض الأحيان غير دقيقه ))

هذا التبسيط يمكننا تأكيده من خلال مقوله القديس جيروم فى تعليقه على رسالة غلاطية قائلاً:
(( عندما نتعامل تقريباً مع كافة الإقتباسات من العهد القديم فإنه يجب ان نضع صوب أعيننا ان كتبة الأناجيل والرسل وضعوا العهد القديم فى الذاكرة وأنهم فى كثير من الأحيان حرفوا ترتيب كلمات الفقرة المقتبسة عندما يشرحون معناها وأنهم ببعض الأحيان يضيفون او يحذفون كلمات. ))


خلاصة التدوينة:
ما أريد قوله هو ان نظرية "الأمانة" فى النقل على حساب صحة المنقول لم تكن القضية المحركة للقديس جيروم بل ان القضية برمتها تتمثل فى كيفية مواجهة الإتهامات من قبل الهراطقة لفقرات لا يمكن تفسيرها الا فى ضوء طعنهم ذاته .... او لنقل بشكل اوضح تحريك الأساليب السحرية فى مواجهة تلك المطاعن .... فلا هو أشار الى مخطوطات تحوى قراءة "الأنبياء" ولا هو اشار حتى الى كيفية معرفته بأن "إشعياء" فى الأصل خطأ من النساخ.

فضلا عن ان تلك النظرية الطريفة تفتح الباب على مصرعيه للدلالة على ان الأباء ربما كانت لديهم المعرفة الحقيقية بعدم صحة النصوص الذى بين أيديهم ومع ذلك كانوا يتعاملون معها على انه نصوص صحيحة.
وهو الأمر الذى يذكرنى بقضية القديس يوحنا الكاسيان والذى يرى ان قراءة "باطلاً" بمتى 5-22 هى قراءة زائدة - غير صحيحة - أضافها من لا يرى ان الإدانة فقط لمجرد الغضب ورغم ذلك فهو يرى ان من الأفضل اخذها كما هى لوجودها فى كافة المخطوطات القديمة وبعض المخطوطات الحديثة.
فهل كان حكم القديس يوحنا بعدم جدوى تلك القراءة مبنياً على التقليد المخطوطى لا أرى ذلك ولا يوجد ما يجربنا على ذلك مثله فى ذلك مثل القديس جيروم والذى بنى قراره على إقتباس يوسابيوس القيصري المبنى اصلاً على المجهول وليس على التقليد المخطوطى.
 وإذا كان هذا هو حال الآباء فما هو بالنا بحال النساخ ممن لا نعرف عنهم ولا عن أفكارهم شيئاً.

ملاحظة على الهامش:

نص الفولجاتا اليوم هو خلاصة تدخلات نسخية من اللاتينية القديمة واليونانية بشكل أصبح من المتعذر معه الوصول الى النص النقى للفولجاتا الأصلية.
بروس متزجر و إيرمان بارت : نص العهد الجديد - إنتقاله ، فساده ، إستعادته ص106

وعجبى .... !

هناك تعليق واحد:

احمد رغ يقول...

تعرف ياايمن يكفي للرد وهو قول متزجر وغيرة ان نص الفلجاتا فقد وظهر علي هذة الهيئة التي نراها اليوم فلا احد يعرف النص الاصلي للفلجاتا التي كتبها جيروم لان احيانا نجد نص مضاف في بعض الفلجاتا وغير مضاف في نوع فلجاتا اخر اعطيك مثال نص انجيل لوقا الاصحاح 17 الفقرة 36 فيها اختلاف قراءاة في المخطوطات وايضا الفلجاتا انواع منها حذفت الفقرة وانواع اضافتة وهذا يدل ان الفلجاتا تم الاتلاعب بها بعد ان فقدت....انتهي