19 مايو 2012

خواطر حوارية مع مولكا مولكان (1)

(1)
النقد النصي بين القرآن الكريم والكتاب المقدس

من البديهيات عند الحديث عن تطبيق آليات وقواعد النقد النصي على القرآن الكريم والكتاب المقدس فإن تلك الكتب يجب ان تتطابق علي أرضية مشتركة فيما بينها ليكون تطبيق ذلك النقد له معني ومخزي.

فهل القرآن الكريم بحاجه الي النقد النصي في تحقيقه او تحقيق موثوقية نصه؟

الإجابة علي هذا السؤال تتطلب منا اولاً معرفة لماذا نحن بحاجه أصلا الي النقد النصي في الكتاب المقدس .. لعل ابسط إجابة هي ان النص الاصلي للكتاب المقدس ضاع وبالتالي فإن الوسائل التي تناقلت هذا الاصل المفقود ليست بالموثوقية الذاتية وهو ما يتطلب منا البحث عن تقرير (خارجي) لتحقيق صحة وموثوقية تلك الوسائل... وهو ما نسميه الان بعلم النقد النصي.
او لنقل ببساطة انه (الممارسة) التي تبحث إعادة الكلمات الاصلية لاي عمل أدبي فقدت مخطوطاته الاصلية المكتوبة من قبل مؤلفة.... ولأن الكتاب المقدس عمل أدبي تم بنفس طريقة الأشكال الأدبية العادية فقد ضاع نصه وهو ما يختلف تماماً مع القرآن الكريم والذي يجب اولاً علينا ان نفهم طبيعة نصه ... وهذا هو الكلام الذي صدم الزميل مولكا (ربما لانه بالطبع لما ينزل علي هواه) حيث ان النص القرآني ليس مثل نص الكتاب المقدس ... فإذا كنا نتحدث عن نص واحد للكتاب المقدس فإن نص القرآن الكريم ليس من نوعية النصوص التي في مفرداتها تُري بالوجه الواحد ... لماذا؟ ...  لأن القاعدة الاولي التي بني عليها القرآن الكريم من أيام الرسول صلي الله عليه وسلم كانت كما ذكر في الأحاديث:
لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال يا جبريل إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط قال يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف (الترمذي 194/5)
تلك (الأحرف السبعة) ليست بالضرورة أن تُفهم في ضوء التعريف المصطلحي للفظ نفسه (وهو ما سبب الإختلاف لكثير من العلماء) بل يمكننا فهمها كما فهمها الصحابة أيام الرسول صلي الله عليه وسلم في ابسط صورها، فمثلاً يحكي لنا البخاري عن ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان بشكل يختلف عما تعلمه عمر من الرسول صلي الله عليه وسلم او كما عبر هو عن ذلك بقول: (حروف كثيرة لم يُقرئنيها رسول الله صلي الله عليه وسلم)... لقد كانت الفكرة القائمة وقتها في ذهن عمر رضي الله عنه ان النص القرآني نص واحد يقرأ من وجه واحد لا يُختلف فيه .. فما كان منه إلا ان ذهب مع هشام للرسول صلي الله عليه وسلم ليحكم بينهم والذي قرر القاعدة بعد سامعه لقراءه كليهما: ( إن هذا القرآن أُنزل على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منه ) .. هذا الامر تكرر كذلك مع الصحابي أُبي بن كعب كما اخرج مسلم وغيره وكان رده صلي الله عليه وسلم وقتها: ( إن قلت سميعا عليما وإن قلت  عزيزا حكيما ما لم تختم آية عذاب برحمة أو آية رحمة بعذاب ) .. من هذه الاحاديث وغيرها يظهر لنا ان المراد بلفظ (الأحرف السبعة) كان معلوماً لدي الصحابة في ذلك الوقت ولم يكن بالأمر الذي يتطلب معه حتي سؤال النبي عن معني المصطلح نفسه ... لذا وفي ضوء الألفاظ الحديثية عن (الأحرف السبعة) يمكننا التأكيد علي ان المراد بها هو (أوجه متعددة للقراءة) ولكن ليس بالضرورة ان يكون كل وجه مختلفاً تماماً مع الوجه الأخر لعدم دلالة الأحاديث على ذلك ... بل ان الكلمه الواحدة قد يكون لها وجهان فأكثر بما يثبت به الإختلاف .... وكلها كما قال صلي الله عليه وسلم: ( ليس منها إلا شاف كاف ) ... لذا فإنه وحتى مع إقرارنا بإختلاف العلماء في تعريف "الأحرف السبعة" إصطلاحاً فإننا نقر كذلك بحقيقة التسمية ذاتها بغض النظر عن الإحاطة الكاملة بالتعريف ذاته.

فى ضوء ذلك التعريف البسيط والفهم لطبيعة النص القرآنى فإن تطبيق النقد النصي يسقط تماماً لأن أول قواعد النقد النصي كما أقرها دكتور كورت الاند تنص علي ان القراءة الأصلية يجب ان تكون قراءة واحدة وهو الأمر الذي يعنى إن تمرير تلك القواعد النصية (بالعافية) علي النص القرآني هو بمثابة عبث ليس اكثر.

ما أريد قوله في تلك الخاطرة ان النص القرآني لايمكن النظر اليه بشكل مجرد عن طريق مفهوم "النص الواحد" مثله في ذلك مثل كافة الأعمال الأدبية العادية كالكتاب المقدس وغيره بل هو كتاب "حى" بُنيت أوجه قراءاته جميعاً من قبل اصل واحد وهو الرسول صلي الله عليه وسلم كما سنري في خاطرة: "مصادر نص القرآن الكريم والكتاب المقدس" و خاطرة: "الإنتقال النصى بين القرآن الكريم والكتاب المقدس"

لعل الأمر الذي سيصدم كل مسيحى ان إثبات نظرية الإختلاف وتوابعها من تحريف وفساد وخلافه لم يعد بتلك البساطة التي يتخيلها كما هي في كتابه.. فإذا كان المُسلم بإمكانه مثلاً ان يتسائل عن تحريف مرقس 1-2 بين "إشعياء النبى" و "الأنبياء" وذلك بإعتبار ان النص الواحد في ذاته له أشكالاً مختلفه متضاربه، فإن المسيحى لا يمكنه ان يتقمص نفس الدور في سؤاله عن الإختلاف بين "ملك" و "مالك" لأنها جميعاً تعتبر أصلاً للنص القرآن..