10 سبتمبر 2012

موثوقية النصوص المقدسة


مصادر نص القرآن الكريم والكتاب المقدس

كيف إنتقل النص عبر العصور المختلفة؟


بديهياً فإن موثوقية اي نص تعتمد علي الطريقة التي انتقل بها هذا النص من مصدره الي وقت النشر او المعاينة او الإستقرار التاريخي

إلا ان تلك الموثوقية تختلف من نص إلي أخر وفقاً لطبيعة ذلك النص ... فما قد نراه نوعاً من التوثيق عالي الدرجة في الإنتقال النصي للقرآن الكريم لا يشترط ولا يجب ان يكون بنفس درجه العلو في الإنتقال النصي للكتاب المقدس والعكس صحيح.

ولذا فإن مصدرية أي نص تعتمد في الاساس علي طبيعة ذلك النص المنقول...
ما بين نص متفرد الوجه أحادي الأصل
وبين نص متعدد الأوجه أحادى الأصل
او نص متفرد الوجه متعدد الأصل
او نص متعدد الأوجه متعدد الأصل.

ولذا فإن الحديث عن موثوقية اي من نصي القرآن الكريم او الكتاب المقدس يتطلب منا تحديد موقع نص كلاهما من تلك الخيارات الأربعة.

وفقاً للفكر الإسلامي التقليدي والمبني على أدلة حديثية متواترة بشكل كبير فإن النص القرآني من نوعية النصوص المتعددة الاوجة أحادية الأصل ... فالنص القرآني قد يقرأ في مواضع بألفاظ مختلفة متعددة برسم مختلف ... مع الإشارة الي ان كل الأشكال تمت من خلال الرسم العربي وبالأحرف العربية من خلال أصل واحد وهو "الرسول صلي الله عليه وسلم" محدد زمنياً ومكانياً .

في حين فإن الكتاب المقدس من نوعية النصوص أحادية الوجة متعددة الأصل ... فكل الرسائل والأسفار والأناجيل لا تعود الي أصل واحد وإنما إلي عده أصول "مؤلفين" متعدده زمنياً ومكانياً.

وبالتالي فإن السؤال المطروح هو كيف إذا يمكننا ان نثق في ان ما هو موجود بين أيدينا الأن هو في حقيقته صورة دقيقه مما تركه الأصل في كلا النصين؟

بديهياً فإن الأصل في كلا النصين لم يعد متوفراً بذاته وبالتالي فنحن بحاجة الي ان نبحث عن آليه إنتقال موثوقه ... لتكون حلقة وصل "دقيقة" بين ذلك الأصل المفقود وبين ماهو بين أيدينا.

1- مصادر إنتقال النص القرآني:

تلقي الرسول صلي الله عليه وسلم القرآن الكريم من جبريل عليه السلام مشافهه بدون واسطه كتابيه فلم يكن بين يدي الرسول كتاباً او ينقل عن كتاب ... وهو ما يعني ان أول وسيلة لنقل القرآن الكريم من جذور أصوله كانت عن طريق الإتصال الشفهي وليس الكتابي.

ثم قام الرسول صلي الله عليه وسلم بعد جبريل عليه السلام بنقل ذلك النص الي الصحابة بنفس الأسلوب الشفهي .

إلي تلك المرحلة فإن النص القرآني لم يتخط كونه منقول شفهياً إلا انه في المقابل ومن تلك المرحلة تحديداً - اي مرحلة تلقي الصحابة للقرآن الكريم من الرسول - تفرع الإنتقال الي نوعين:

1- التلقي الشفهي والإخراج الشفهي (كابن مسعود رضي الله عنه والكثير من الصحابة)

2- التلقي الشفهي والاخراج الكتابي (ككتبة الوحي)

لكن هذين النوعين لم يكونا علي نفس الدرجة من الأهمية لأنهما لا يتقابلان معاً في خط الإخراج.

فالإخراج الشفهي يتحمل اكثر من وجه في التلقي - اي ان الصحابي كان بمقدوره ان يحفظ عده اوجه للنص في آن واحد

في حين فإن الإخراج الكتابي لا يتحمل اكثر من وجه - علي الأغلب - نظراً لطبيعة ومادة الإخراج نفسه.

ومن هنا فإنه بإمكاننا التوكيد علي ان المنهجية الإسلامية خلال عصر الرسول صلي الله عليه وسلم كانت من خلال رؤية نص القرآن الكريم علي انه: ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) اي ان القرآن الكريم يُسر من قبل الله عزوجل للحفظ في الصدور بالسهوله التي تغني في حقيقته وأصله علي الإعتماد الكتابي كما هو واضح في الحديث القدسي: (و أنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما و يقظانا ) والحديث الحسن: (لو جعل القرآن في إهاب، ثم ألقي في النار ما احترق) ومن تبيان ان القراءات كانت في ذاتها نابعه من قصور المنهجية الكتابية المجردة كما هو مشار إليه في حديث الأحرف السبعة: ( إني بعثت إلى أمة أميين منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط  )

ومن ثم فإذا كان المنهج الإسلامي خلال تلك الفترة التاريخية من الإنتقال النصي للقرآن الكريم يميل الي الحفظ عنه الي الكتابه فإنه يمكننا التأكيد علي ان الإخراج الكتابي لم يكن إلا للحفظ الشخصي والصيانة وليس للإنتقال النصي بالشكل الرسمي.

يمكننا الإستدلال على ذلك من خلال حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه في مرحله جمعه للقرآن الكريم في عهد ابي بكر الصديق رضي الله عنه والذي يشير الي ان أسباب الجمع كانت في حقيقتها مبينه علي إشتداد قتل القراء يوم اليمامة وما يتبعه من التخوف علي ضياع بعض القرآن الكريم بمقتل هؤلاء القراء.

إذا يمكننا توضيح عملية الإنتقالي النصي من الأصل - الرسول عليه الصلاة والسلام - الي الفروع عن طريق اسلوبين:

1- اسلوب الحفظ والتلقي والضبط والرواية.

2- اسلوب الكتابه.


2- مصادر إنتقال نص العهد الجديد:

يُعرف المسيحيون نص العهد الجديد علي انه النص المُرشد بالروح القدس المكتوب بأيدي بشر ... مع الإختلاف في أمرين:

1- ان الكتبة كلهم من طبقة الرسل او ان بعضهم من الرسل والبعض من تابعيهم.

2- ان النص المكتوب منقول لفظاً من الروح القدس او ان المنقول هو الفكرة والصياغه تمت من جانب الكاتب.

من هذا التعريف (مع الإختلافات المشار إليها) يمكننا إذا بلورة فكرة الإنتقال النصي للعهد الجديد كما يلي: (مقارنة مع الإنتقال القرآني)

  • في الوقت الذي قرأ فيه جبريل عليه السلام القرآن علي الرسول عليه الصلاة والسلام فإن الروح القدس كان هو المناظر له في عمليه الجذور الأصولية لنص العهد الجديد وفقاً للإيمان المسيحي.
  • بينما تلقي الرسول القرآن عن جبريل مشافهة ونقله مشافهة فإن الكتاب بالعهد الجديد تلقوه ( لفظاً او مضموناً ) ونقلوه مكتوباً.
  • تلقي الصحابة عن الرسول عليه السلام مشافهة وكتابة في حين تلقي الأباء الرسل النص مكتوباً.

وبشكل مختصر يمكننا توضيح العملية الإنتقالية الأولي لكلا النصين كما يلي:

القرآن الكريم: جبريل --شفهي-->> محمد عليه السلام --شفهي- >> الصحابة --شفهي + كتابة-- >> التابعين

العهد الجديد: الروح القدس --لفظاً او مضموناً-- >> الكتبة--النص مكتوباً-- >> الآباء الرسل

من ذلك التوضيح المختصر يمكننا رؤية ان العملية الإنتقالية لنص العهد الجديد منذ بدايته لم تقم إلا علي الأساس الكتابي فلم يكن هناك تواجد في اي مرحلة من مراحل إنتقاله للإنتقال الشفهي عكس القرآن الكريم الذي كان الإنتقال الشفهي هو المسيطر علي كل مراحله حتي مرحلة الإخراج الأخيرة ... مع الإشارة الي ان عملية الإخراج لنص العهد الجديد تقل عن مثيلتها في القرآن الكريم نظراً لان المخطوط الأصلي المكتوب قد حل محل الكاتب الأصلي نفسه وهو ما يعني إنتفاء بقاءه لعدم الحاجه اليه.

بمعني ادق فإن نص العهد الجديد لا يوجد اي مصدر له سوي أسلوب الكتابه .. والذي ينقسم في ذاته الي: (المخطوطات)

في حين فإن المخطوطات تنقسم في ذاتها الي ثلاثة أنواع:

1- مخطوطات باللغة الأصلية - اليونانية -

2- مخطوطات الترجمات القديمة عن المخطوطات باللغة الأصلية

3- إقتباسات آبائية وغيرهم من مخطوطات باللغة الأصلية او مخطوطات للترجمات عن المخطوطات الأصلية

موثوقية الإنتقال النصي بين القرآن الكريم والعهد الجديد

رأينا فيما سبق كيف ان القرآن الكريم يتميز عن العهد الجديد بطريقين للنقل أحدهما أساسية - الحفظ - والأخري تكميلية - الكتابة - في حين فإن العهد الجديد لا يتمتع سوي بطريقة واحدة فقط في النقل ألا وهي طريقة الكتابة.

وفيما يلي سمات الطريقتين:

* سمات اسلوب الحفظ:

1- قابليه الحافظ علي حفظ عدة اوجه للقراءات في نفس الوقت.

2- امكانية وسهولة تصحيح الأخطاء والزيادة والنقصان - وذلك مثلاً خلال فترة الوحي والعرضه الاخيره من ناسخ ومنسوخ -

3- سهولة الإنتقال الي اماكن متعددة - كسفر الصحابي الي البلاد المجاورة وتصديهم لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم بها -

4- سهولة التلقين والإلقاء بشكل واسع وسرعة النقل وبساطة عملية الحفظ.

5- إستحاله التواطء علي الكذب مع تعدد المصادر المختلفة وسهوله الإستحضار والمراجعة.

6- سهولة الربط الزمني والمكاني بين المتلقي والملقن وتحديد موضعهما من الأصل.

7- ينقطع ذلك الاصل - الحافظ - بإنقضاء أجله او بالمرض او بغيره من الأعراض التي تعتري البشر.

* سمات اسلوب الكتابه:

1- أحادية المصدرية فالنقل في الأغلب يكون عن مصدر واحد وفي احيان تكاد تكون قليلة جداً قد يراجع مصدره علي مصدر اخر او يراجع إنتاجه علي مصدر اخر وبالتالي تعقد عمليه النقل ومن ثم تعقد عمليه التنقيح والمتابعة.

2- الأخطاء البشرية في العملية الكتابية من سهو وحذف وإضافة وتبديل وصعوبة تتبعها وصعوبة تصحيح الأخطاء.

3- مجهولية الأصل بإنقضاء اثره - فمن يري مخطوطاً الأن قد مر عليه 1500 عاماً لا يمكنه التأكيد علي ان القراءة القائمة بذلك المخطوط هي من فعل الناسخ نفسه وليست من اصل النموذج الذي ينقل عنه.

4- شخصنة النسخة وتأثير ذلك علي النص المنقول بها - ككتابة تعليقات نصية او تعشيرات او إشارات او تعمد إضافة كلمات الي متن المخطوط بالشكل الذي يجعلها وثيقة الإتصال بالنص -

5- صعوبة النقل والإنتشار والمراجعة والكتابة - فالناسخ يتسهلك فترة زمنية طويلة سواء في عملية النسخ او عملية التصحيح لنسخة واحدة - فضلاً عن التكلفة العالية لإنتاج مخطوط واحد.

6-  فقدان الصلة الوثيقة الزمنية والمكانية في معظم الأحيان بين النسخة المنقوله عن الأصل والأصل نفسه - فلا أحد يمكنه تحديد عدد النسخ الساقطة بين تلك النسخة والأصل المفقود -

7- يتأثر المخطوط بالعوامل الجوية وعوامل الحفظ إلا انه يمتاز عن البشر بطول العمر في حالة توافر عوامل جوية معينة

ولتحقيق مدي قابلية تلك السمات للتطبيق علي كلا النصين فإنه ينبغي لنا ان نوضح للقارئ بعض الملاحظات -او بمعني ادق الحقائق-:

1- لم يختفي اثر القرآن الكريم تاريخياً ولا مكانياً فالمسلمين يتمتعون بسنديه مميزه لتاريخية الإنتقال النصي للقرآن الكريم من أيام النبي صلي الله عليه وسلم، فهو متحقق الأصل معلوم الزمان والمكان والهيئة وطريقة التلقي والتدوين ..فهذا الإمام مالك (93-179هـ) يصف لنا قراءة الإمام نافع بإنها سنة - أي انها القراءة التي تواتر الناس علي القراءة بها منذ عهد الرسول صلي الله عليه وسلم - مع ملاحظة ان قراءة الإمام نافع هي قراءة اهل المدينة التي عاش بها الرسول الله عليه وسلم ودفن فيها وبالتالي فلا مجال للتصور ان القراءة ضاعت في المدينة كلها حتي جاء الإمام نافع من السماء ليعيد إحيائها .... في حين فإن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد لا يوجد اي تاريخ او سند نصي له خلال الـ100 عاماً الاولي بعد كتابته ... فهاهم اباء الكنيسة المسيحية إيرنائوس وإكلمندس السكندري يقران ان التوارة وكتابات الأنبياء ضاعت قبل ان يعيد عزرا كتابتها بالوحي وهاهو يوحنا ذهبي الفم يقر بأن اليهود أضاعوا بعض اسفارهم بسبب الإهمال .... ولا يختلف التاريخ والسندية المجهولة كثيراً عند المسيحيين فكافة كتابات العهد الجديد لا احد يعرف كيف تلقيت ولا كيف ولا متي كتبت تحديداً ولا كيف سُلمت ولا كيف أستُلمت ولا كيف جمعت ولا كيف نشرت .. بل ان اولي الإشارات إليها يختلف تماماً مع ما هو قائم كفكر عن تاريخيتها... فعلي سبيل المثال تؤمن الكنيسة اليوم بأن إنجيل متي كتب في أصله باليونانية من قبل البشير في حين اقر القديس بابياس - تلميذ الإنجيلي يوحنا -  بأن أصله كان عبرانياً وأن ترجمتة لليونانية تمت بناءاً علي مجهودات شخصية من قبل البعض وهو الإقرار الذي ظل قائماً حتي القرن الرابع حيث شهادة القديس جيروم من ان مترجم الإنجيل متي هو في الحقيقة مجهول الهوية !! مثال اخر يمكننا طرحه هنا للدلالة علي جهل المسيحيين بالتاريخ الأولي للإنتقال النصي للعهد الجديد ألا وهو رسائل بولس حيث يقر العديد من العلماء علي ان جمع الرسائل معاً ونشرهاً هو امر مجهول الهوية والزمان والكيفية.

2- عني المسلمين منذ بداية عهدهم بالحفاظ علي كتابهم وتحقيق القراءات به ما بين صحيح وشاذ وموضوع ففي واقع التاريخ الإسلامي نجد ان ما يقرب من 90% من الكتابات المتعلقة بعلوم وقراءات القرآن الكريم تقع في فترة الخمسة قرون الأولي الهجرية وهو الأمر الذي علي النقيض منه تماماً في الكتاب المقدس فإن بدايات العملية النقدية لقراءات النص المقدس الحقيقية تعود الي اخر خمسة قرون ميلادية فقط !! ، تجدر هنا الإشارة إلي إن أول عملية تنقيح لنص العهد الجديد تمت بعد أربعة قرون ميلادية في نطاق رسمي من قبل شخص واحد وهو القديس -جيروم- فيما يعرف حالياً بإسم - الفولجاتا - إلا ان تلك العملية كانت مبنية في مجملها علي تخمينات فضلاً عن أن النص المنقح كان منشوراً بلغة اخري -اللاتينية- غير اللغة الأصلية للعهد الجديد ولذا فإنه وفي بعض الأحيان كان النص لا يوجد له مثيل في اي مخطوط يوناني ولهذا لم يعتد علماء المسيحية بأن لها اي دور - حازم - عند قراراتهم النقدية.... مع التنبيه علي نقطة هامة ألا وهي ان المخطوطات التي تُستخدم اليوم كحجر أساس جذري في عملية تنقيح العهد الجديد ليس لها تاريخ إنتقالي فالمخطوط الفاتيكاني لم يظهر للوجود إلا مع القرن الـ15 الميلادي والمخطوط السينائي لم يظهر الي الوجود إلا مع إكتشاف العالم تشندورف له .. أي ان النص المسيحي لم يكن موثقاً حتي ظهور هاتين المخطوطتين الي حيز الممارسات النقدية. (النسخ النقدية الحديثة لنص العهد الجديد والتي تُعد الان الأقرب الي النص الأصلي وفقاً لعلماء المسيحية تعتمد علي هاتين المخطوطتين فيما يقرب من 75% من النص، بل لنقل بشكل اوضح تفعيل الإختلافات النصية في ضوء الإختلافات بين نص الفاتيكانية والسينائية مع باقي المخطوطات )

3- كان الأصل عند المسلمين الأوائل هو التلقي بالمشافهه وليس بما هو مكتوب ومن أمثلة ذلك نقل علي رضي الله عنه لأمر الرسول صلي الله عليه وسلم للصحابة بأن -يقرأ كل واحد كما عُلم- وإجماع العلماء بأن الأصل هو الرواية والتلقي وليس المكتوب بإعتبار ان القراءة سنة يأخذها الأخر عن الأول ولهذا كانت اي محاولة - تحريفية - من قبل اهل الأهواء كالرافضة وغيرهم تقابل بالفشل لأن الإقراء كان مشهوراً بالشكل الذي يتعذر التدخل فيه بشكل عرضي بدون اي ان يثير هذا حفيظة الناس ولهذا قال ابن مجاهد: ( والقراءة التي عليها الناس بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام هى القراءة التي تلقوها عن أوليهم تلقياً ، وقام بها في كل مصر من هذه الأمصار رجل ممن أخذ عن التابعين ، أجمعت الخاصة والعامة على قراءته وسلكوا فيها طريقه ، وتمسكوا بمذهبه )... علي النقيض فإن الكتاب المقدس لم يكن يتمتع بتلك الشهرة النصية حيث ينص دكتور كورت الاند علي ان النص المقدس يحمل من الخواص التي تجعله يحتفظ بأي قراءة دخيله عليه ويرفض نبذها .... فكم من قراءات شهيرة لا تعد الإن عند علماء المسيحية إلا قراءات إفساديه قام بها ناسخ مجهول مثل خاتمة إنجيل مرقس وقصة المرأة الزانية ونص تثليث رسالة يوحنا وغيرها الكثير.

4- لا يوجد في التاريخ الإسلامي كله ما يفيد بأن التقليد النصي الموجود بين أيدينا الأن به ميول عقائدية في قراءاته القرآنية فليست هناك قراءات تدرج تحت باب ما يُتوهم به تصحيح أخطاء الناسخ السابق وليست هناك قراءات تدرج تحت باب أنها لم تعد مقبوله تاريخياً او عقائدياً وليست هناك قراءات قرآنيه تدرج تحت باب تحسين صورة محمد عليه السلام او تنزيهه عن الأخطاء وليس هناك قراءات تؤثر في رؤيتنا لرب الكتاب او للنبي الذي انزل عليه الكتاب .. لكن النقيض لا منكر لعدم وجوده بالكتاب المقدس فكل أنواع الفساد بكافة أشكاله موجودة في النص المقدس فهناك قراءات مذهبية وعقائدية وفكرية وتاريخية تعج بها مخطوطات العهد الجديد والقديم... وهو ما يُظهر الفارق بين قراءات القرآن الكريم وقراءات الكتاب المقدس فالدافع الذاتي لأي شخص هو التحريف تبعاً للهوي ولأفكار الذات وليس لمجرد التغيير بما لا يخل بالمعني.

فالنص القرآني لا يحمل في كافة جنباته اي مشكلة نصية جوهرية مثل مشكلة قضية المرأة الزانية بإنجيل يوحنا ولا يحمل مشكلة نصية خطيرة مثل مشكلة خاتمة مرقس ولا يوجد به اي مشاكل لاهوتية او عقائدية مثل طعن يسوع بمتي 27-49 او نص تثليث رسالة يوحنا.


بل كمثال بسيط فبمقارنة النص المقدم من قبل واحدة من أقدم وأكمل مخطوطات القرآن الكريم - مصحف طوب قابي - والذي يعود إلي نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن الثاني وذلك لواحده من أكبر سور القرآن الكريم وهي سورة البقرة (286 آيه).. مع أقدم مخطوط كامل لواحد من أقصر الأناجيل وهو إنجيل مرقس - المخطوط الفاتيكاني والذي يعود للقرن الرابع - فإن عدد الإختلافات مع ما هو الأن من نص للقرآن الكريم وما هو بين أيدينا الأن مما يُسمي بالنص المُستلم (الفاندايك) كان كالتالي:

* عدد إختلافات مصحف طوب قابي عن مصحف المسلمين اليوم هو ما يقرب من 189 إختلاف ، منها 187 إختلاف شكلي بحت يعود الي حذف الألف او الياء او الواو وإثباتهم كما هي العادة الجارية في الكتابة العربية ورسمها (مثل لقمن بدلاً من لقمان) ... وقراءتين فقط وجدت لهما طابع مميز وهما: مصحف طوب قابي يقرأ (غفران) بدلاً من (غفرانك) بالأيه 285 ويقرأ أيضاً (واوصي) بدلا من (ووصى) بالآيه 132 ...

 فقط لا غير ... ! 

لا آيات محذوفة.

لا فقرات محذوفه او مضافة.

لا آيات مرتبه بشكل مختلف.

لاكلمات مُبدله بشكل جذري.

لا تناقضات نصيه صريحة مع مصحفنا اليوم.

* عدد إختلافات المخطوط الفاتيكاني بإنجيل مرقس عن نص الفاندايك هو ما يقرب من 700 إختلاف - مع إهمال الإختلافات التي لا تُعطي معني ترجمي اي الإختلافات التي تنقص حرفاً او تزيد حرفاً بما لا يخل بمعني الكلمة - منها 275 إختلافاً لكلمات مُبدله بشكل جذري مثل (أشعياء النبي بدلا من الأنبياء 1-2 ، ابنته هيروديا بدلا من ابنه هيروديا 6-22) ومنها 73 إختلافاً لكلمات او فقرات مزيدة مثل (لأنهم علموا انه مسيح 1-34) ومنها 304 إختلافاً لكلمات او فقرات محذوفة مثل (خاتمة إنجيل مرقس) ومنها 40 إختلاف لكلمات ترتيبها يختلف عن الترتيب العادي مثل (رؤساء الكهنة والكتبة 11-18)

5- يتمتع القرآن الكريم بثروة مخطوطية تفوق ثروة الكتاب المقدس من ناحية العدد المرتبط زمنيا ومكانياً بالإنتقال النصي ... ففي الوقت الذي يجع فيه التراث الإسلامي بمخطوطات كاملة أوشبة كاملة تعود الي القرنين الأول والثاني الهجري فإن التراث المسيحي لا يوجد به اي مخطوط كامل او شبة كامل الا بعد أربعة قرون من النص الأصلي ... وفي الوقت الذي تنتشر فيه المخطوطات الإسلامية شرقاً وغرباً بأنواع مختلفة كالحجازي والكوفي فإن المخطوطات المسيحية المكتشفة خلال الثلاثة قرون الأولي كالبرديات جميعها قادم من مصر فقط وكأن العهد الجديد لم يحفظ لنا في القرون الثلاثة الاولي إلا من خلال مخطوطات مصر فقط !!

من خلال تلك الحقائق فإنه بإمكاننا الأن ان نرسم هيكل مبسط للموثوقية الأولية للإنتقال النصي للقرآن الكريم والعهد الجديد من خلال امرين:

الأول- ان القرآن الكريم إنتقل من جيل معلوم إلي جيل معلوم بطريقة معلومة وبشكل علني معلوم فالإنتقال النصي للقرآن الكريم هو انتقال طبقي وليس إنتقال شخصي.

في حين فإن العهد الجديد إنتقل من جيل غير معلوم إلي جيل شبة معلوم بطريقة غير معلومة وبشكل لا يعرف عنه احد شيئاً ، فما يعتمد عليه العلماء اليوم في محاولتهم الوصول الي اقرب نص صحيح للنص الاصلي الضائع قائم في حقيقته وذاته علي محاولات شخصية من قبل نساخ تدور نتائج أداءهم حول نقاء نص المخطوطات التي يقومون بنسخها بدون اي معرفة حقيقية لطباعة او تصوراته.

ففي الوقت الذي تعج به كتابات المسلمين الأوئل بتتبع مصدرية القراءات المختلفة كقولهم هذه قراءة ابن مسعود وهذه قراءة ابي بن كعب وهذه قراءة فلان فإن كتابات المسيحيين الأوائل - أمثال أوريجانوس - تعج بقراءات لا يعرف لها أصل ولا من اين نشات بل وفي أحيان لا يُهتم بأيهما الصحيح من العليل !!

الثاني- إختلافات القراءات القرآنيه - المعتبرة - تعود في جذورها إلي أصل الرسول صلي الله عليه وسلم وقد كانت تدور في إطار من الرخصه للتيسير علي العامة وقد كانت هناك القراءات المشهور منها وغير المشهور ولما ان إختلط الناس وتداخل العجم وكثرت الإختلافات فما كان من عثمان رضي الله عنه إلا ان قام بتجميع الناس علي - شكل نصي واحد يحتمل عده أوجه من القراءات - وترك الناس ما عداه من قراءات مشهورة او غير مشهورة عن الصحابة بغيه عدم الإختلاف والتفرق فإنتهي الامر يتوثيق الخط النصي الموحد المنتقل عبر الأجيال بالتواتر وترك ما غير ذلك الخط حتي ولو كان من قراءات الصحابة والتشنيع علي ذلك حتي لا يعود الإختلاف الي الأمة كما فُعل بابن شنبوذ، علي ان بقاء أثر لتلك القراءات بمخطوطات قديمة او بمصادر إسلامية قديمة لا يعني القدح بالخط النصي الموحد لأن ذلك يدخل وقتها من باب "الإختيار" وليس من باب مقابلة قراءة بقراءة.

في حين فإن إختلافات قراءات الكتاب المقدس تعود الي الميول البشرية والفكرية والتاريخية واللاهوتية لدي النساخ بشكل ليس بالضرورة له صدي إنكاري عند البعض بل النقيض فإن - إفساد - أحد النساخ لنسخه بإضافات او حذف فقرات قد يلقي صداه فيمن يقوم بالنسخ عنه وكذلك من تلقي نسخته بالقبول وإعتبارها معياراً قياسياً لنسخته.

الخلاصة

أولاً: لا اخفي شعوري بالعجب من فعل بعض المسيحيين عندما ياتي بمخطوط ما ويقوم بعرضه علي المصحف اليوم ويخرج متوهما ببعض الإختلافات ليصرخ في نصر عظيم "تحريف القران" ، فلو جاء مسلم باي مخطوط كالسينائي والفاتيكاني وعرضه علي اي من نسخ اليوم فستكون الاختلافات كبيرة ومؤثرة وعندما يعنون ذلك بنفس المبدء "تحريف الكتاب المقدس" فإننا نفاجئ بالمسيحي يقول في بساطة شديدة لا قيمة لرأي مخطوط واحد في مقابل كل المخطوطات.... نعم هو المبدء ذاته لا قيمة لمخطوط واحد عند المسلمين في مقابلة تقليد الأمة بأسرها مع الأخذ فى الأعتبار سعة المسلمين لما يعرف بإسم "الإختيار".

ثانياً: لا أخفي شعوري كذلك بالعزة والفخر لأمة حرصت بعناية علي متابعة إنتقال كتابها عبر الأجيال منذ اللحظات الأولي ... فياللعجب من قوم لا يعيرون بالاً لجهود مئات العلماء خلال السنوات الأولي للإسلام بل ويعتبرون -بثقة يحسدون عليها- ان كل هذه الجهود لا تفيد شئ لأن القرآن الكريم -محرف- بزعمهم.

ليست هناك تعليقات: