8 يونيو 2013

تاريخ إنتقال النص المقدس والنقد النصى


 Eldon Jay Epp  

clip_image001


لماذا فجأة أصبح النقد النصى أكثر تعقيداً !!


لسنوات طويلة ظلت الجملة الشهيرة ( من ومتى وكيف ولماذا حرف ؟!)، هي شعار الكتب الدفاعية العربية فى معرض إجابتها على تساؤلات المسلمين حول قضية تحريف الكتاب المقدس.[1]
لقد كانت تلك الجملة وقتها تتمتع بشكل كبير بالفلسفة العقلية والفكرية المجردة لكنها فى الحقيقة كانت تفتقد الى التمتع الواقعى والحقيقى فى ضوء المخطوطات وتاريخية الإنتقال النصى للعهد الجديد او القديم على حد سواء.
 
ففى بدايات القرن الثالث كانت أولى الإشارات الملحة الى ضرورة تقنين علم يهتم بدراسة الإختلافات بين مخطوطات العهد الجديد، وذلك عندما اشار العلامة (أوريجانوس) الى ذلك قائلاً:
( الاختلافات بين المخطوطات قد صارت عظيمة، إما من خلال إهمال بعض النساخ أو من خلال الجرأة الإنحرافيه لآخرين، أو من خلال إهمال فحص ما قاموا بنسخه، أو في خلال عمليه الفحص قاموا بالإضافة أو الحذف كما شاءوا ).[2]
 
 كان الفاصل الزمني وقتها كفيلاً عند (اوريجانوس) للحديث فقط عن "عدد" ، "أغلب" ، "الكثير" من المخطوطات فى ضوء حدود معينة من المخطوطات المحلية.[3] إلا أنه ومع ذلك كان مضطراً فى بعض الأحيان للإشارة الى التفسير التاريخي للقراءة بعيداً عن قانون الأغلبية او الأقلية. ( على سبيل المثال قراءة -يسوع- بإنجيل متي 27/ 16-17 )
كذلك كانت مهمة إنتاج ترجمة جديدة من قبل القديس (جيروم) بالقرن الرابع تتطلب منه فحص اكثر تدقيقاً لمخطوطات اكثر ولمدى جغرافى اكبر وتقديم معلومات تفسيريه تاريخية لبعض القراءات. ( على سبيل المثال قراءة -اشعياء- بإنجيل متي 13/35
 
في ذلك الوقت لم تكن هناك اى اشارات لنوعية – او جغرافية – محددة لتلك المخطوطات المستخدمة من قبل (أوريجانوس) او (جيروم) لذا فإن العامل الأكثر اهمية لدى علماء النقد النصى المعاصرين فى شهادة هؤلاء الآباء كان منصباً على العامل الزمني والتفسيري لتلك القراءات، حيث ان الأمر وقتها لم يكن يتطلب البحث فى قضية “من” او “متي” او “كيف” وإنما كان العامل المشترك وقتها هو “لماذا”. لأنه ليس هناك من وسيلة لمعرفة المخطوطات التى تحدث عنها هؤلاء الآباء.[4]
 
اليوم وبعد قرون طويلة من تلك المحاولات القديمة فإن علماء النقد النصى وجدوا انفسهم فى نفس الموضع وبنفس المتطلبات، إلا ان المعطيات قد صارت اكثر تعقيداً، فالمخطوطات صارت بالآلاف وبشتى اللغات، والمعطيات التاريخية من القرون الأولى غائبة بشكل كامل ولا توجد مخطوطات كافية لكشف غموض تلك الفترة.[5]
 
لقد بدء النقد النصى فى العصر الحديث مقراً لحقيقة ان “لماذا” قد صارت موضع غموض فضلاً عن ان المعطيات “من” او “متي” او “كيف” لم يعد لها مكان على الإطلاق فى النقد النصى.
لقد كتب (ريتشارد بنتلى) عام 1716م مايفيد بان نتاج النقد النصى فى ضوء الغياب الكامل لتلك العطيات معناه: ( اجد انى قادر على تقديم نص يوناني يماثل افضل النماذج الموجودة وقت مجمع نيقية ).[6]
الأمر ذاته الذى أكده الألمانى (كارل لاتشمان) بعده بقرن من الزمان عام 1831 مفيداً ان الغاية هو تقديم نص القرن الرابع وأما النص المقدس ماقبل ذلك فالوصول اليه مستحيل.[7]
لكن التطور الحقيقى للنقد النصى كان عندما صدرت مقدمة العالمين "ويستكوت" و "هورت" عام 1881 فى النقد النصى للعهد الجديد والتى كانت بمثابة عصر جديد لرؤية العلماء لتاريخ نص العهد الجديد. فبعد دراسة إمتدت عبر ما يزيد عن 25 عاماً فإن العالمين الإنجليزيين قاما بتقديم نصاً يونانياً تحت عنوان: ( العهد الجديد فى الاصل اليوناني ) [8]
لم تكن تلك المقدمة معنية بتقديم المزيد من المخطوطات الكتشفة وإنما كانت معنية بمحاولة تقديم تاريخ الإنتقال النصى لتلك المخطوطات عبر تطوير المنهجيات النصية السابقة.[9]
تلك المنهجية الجديدة كان لها واقع السحر فى كل الأبحاث النقدية اللاحقة[10]، حتى ان العالم "كينت كلارك" وصف نصهما بأنه "النص المستلم" الجديد[11]، إلا انه ومع الإكتشافات المتلاحقة من البرديات والمخطوطات المختلفة فقد بدا واضحاً ان نظرية "ويستكوت" و "هورت" ليست بالقوة التى كان يُنظر إليها، حتى ان العالم "أرنيست كولويل" وصف ذلك الواقع الساحر لتلك المنهجية على النقد النصي بالقول: ( هورت وضع منجية الأنساب العمياء فى أعيننا ) [12].
 
لقد كانت المشكلة واضحة للغايه وتتمثل ببساطة شديدة فى أن التاريخية النصية التى بنيت عليها نظرية "ويستكوت" و "هورت" كانت هشة للغايه كما عبر العالم "كينت كلارك" قائلاً: ( التاريخ النصى الذى يقدمه (ويستكوت وهورت) لم يعد ممكنا الدفاع عنه فى ضوء الإكتشافات الجديدة والتحليلات النصية المتكاملة ) [13]، او كما قال العالم “جاكوب بتزر” : ( نظريتهما للتاريخ النصي لا يمكن تطبيقها على الفترة الزمنية التى جاءت منها البرديات ).[14] ، بشكل أبسط لقد كانت نظريتهما قاصرة أيضاً على تقديم النص المقدس المتاح خلال القرن الرابع.
 
الإعتماد الكبير -وفى بعض الأحيان المطلق- على المخطوط الفاتيكانى من قبل "ويستكوت" و "هورت" هو السبب الحقيقى فى بيان عورة منهجهم، فقد كان "هورت" يعلم جيداً عدم مقدرته على تقديم التفسيرات المطلوبه لتاريخ الإنتقال النصى للعهد الجديد خصوصاً فى ضوء المخطوطات المتاحة لدية[15]، لذا فقد كانت منهجية "هورت" ترتكز فى الأساس على (الجودة) بدلاً من الإرتكاز على المعايير التاريخية.[16]
مفهوم (الجودة) هنا كانت يتطلب أختيار -او على حد وصف العالم "ستريتر" (إختراع)[17]- معيار نصى ثابت تقاس عليه الأشكال النصية المختلفة ومن ثم تحديد أفضلها وأكثرها (جودة).
 
لقد وجد "هورت" ضالته فى المخطوط الفاتيكانى واصفاً إياه: ( خط نقى للغاية من نص قديم جداً )[18]
لم يخبرنا "هورت" بالكثير عن الأسباب الجازمة والمقنعة فى أعتبار "تاريخية" الإنتقال النصى للمخطوط الفاتيكانى هو افضل وانقى إنتقال نصى فى العالم للعهد الجديد !! بل الحقيقة انه لم يخبرنا  أصلا عن التاريخ المادى لهذا المخطوط. لقد ظهر نجم المخطوط الفاتيكانى فجأة فى سماء النقد النصى. !!
قام “هورت” بتمييز النص المقدس الى ثلاثة انواع مبكرة (المحايد والسكندري والغربى) واخر متأخر (السرياني)، مفضلاً المحايد عليها جميعاً واصفاً إياه: ( خالى بشكل كبير من الغش الغربى والسكندرى )[19].
علماء النقد اليوم لا يرون صحة تسمية (المحايد)[20] إلا انهم على الرغم من ذلك يرون ان النص "السكندرى" هو الأقرب للصواب [21]، إلا ان هذا النص فى ذاته قد يظل مبنياً على تنقيح قديم [22]، خصوصاً فى ظل عدم معرفتنا بتاريخ الإنتقال للنص بالقرن الأول والثانى مع الإقرار بأن معظم القراءات قد ظهرت فى تلك الفترة[23]،وأيضاً في ظل إثبات البرديات القديمة ان النص "الغربي" كان موجوداً بمصر بشكل موازى للنص "السكندري"[24]، محاولات العلماء لتقنين الأهمية القصوي لنص معين على باقى النصوص وجعله المرجعية الخلفية الحاسمة للإختلافات [25] لم تعد مرضية، فالعقبات والمشاكل التى تواجهة علماء المسيحية فى إنتاج التاريخ النصى لكتابهم صارت عظيمة كما وصفها العالم (هيلموت كوستر)[26]

فعلي سبيل المثال:
- هل النص الأصلي اقرب للنص السكندرى او الغربى؟
- هل الأنواع النصية المختلفة طورت بشكل متأخر فى القرن الثانى؟
- هل النصى الغربى هو الأقرب للأصل ومن ثم تطور لاحقاً إلى النص السكندرى؟
- أم هل النص الأصلى كان هو النص “الوسطي” والذى طور لاحقاً الى الشقين السكندرى والغربى؟ [27] 
 
لا أحد يملك الإجابه على تلك الأسئلة ولا أحد يملك المقدرة أصلا على إجابة تلك الأسئلة كما أقر بذلك العالم “جاكوب بتزر” قائلاً: ( رغم انه لا احد يمكنه إنكار الحاجة الى اعادة بناء جديدة للتاريخ النصى إلا انه لا احد يبدو قادراً على إنتاج مثل هذا التاريخ ).[28]
لم يكن إخفاق منهجية "ويستكوت" و "هورت" - او كل العلماء اللاحقين - فى إستخدام آليات النقد النصى مع تمييز النصوص "السكندري" و "الغربى" وغيرهما فحسب وإنما كان الإخفاق الواضح يتمثل فى تفسير وجود تلك النصوص فى ذاتها فضلاً عن تفسير الإختلافات النصية بينها وفى داخلها أيضاً.  
لقد بدا واضحاً ان العلماء لم ولن يتسطيعوا تقديم تاريخ إنتقالى للعهد الجديد الامر الذى دعاهم للإستعاضة عن ذلك بالتركيز على تقديم وتطوير (نظام) ثانوي معيوب ألا وهو نظام (الإنتقائية).

 ببساطة فإن النقد النصى لن يستطيع إلا فقط ان يخبرنا بان تلك القراءات فاسدة ولكنه لن يخبرنا عن كيفية فسادها ولا المحركات التاريخية لبيان فسادها، الأمر الذى أشار العالم”"كينت كلارك” إليه من أن الإنتقائية ما هى إلا تبيان بخطئ النظرية التقليدية للنص إلا انها لا تخبرنا بوضوح كيف نصحح ذلك الخطأ [30]، بالمقائل فإن العالم (إلدون إيب) يخبرنا ان (الإنتقائية) ماهى إلا نتاج ضروري للتغلب على الفشل فى إنتاج تاريخ إنتقال نصى للعهد الجديد[31]، متمنياً إستبدالها بشيئا اخر اكثر موثوقية يقدم لنا نظريات مقنعة لتاريخ الإنتقال النصى [32].
هذا العمل من قبل النقد النصى لا يعنى ان المهمة الرئيسة للنقد النصى هي الوصول الى النص الاصلى بل كما رأينا نتاجه عند العلماء (امثال بنتلى ولاتشمان وحتى تعريفات العلماء لنص ويستكوت وهورت) هى الوصول الى اقرب نص يمكن تفسيره، الامر الذى قام العالم "ديفيد باركر" بإيضاحه قائلاً: ( هدف النقد النصى ليس، وفى حالة العهد الجديد لا يمكن ان يكون، إستعادة النص الأصلى ). [33] 
 
بإختصار شديد فإن حل المشاكل النصية بإستخدام النقد النصى لم يعد بالبساطة التى يتخيلها البعض ولا بسطحية الأسلوب الذى ينتهج من قبل البعض فى تحليل القراءات النصية المختلفة، النقد النصى اصبح معقداً فضلاً عن كونه هو فى ذاته أداة سلبية كما وصفة واحداً من أشهر علماء النقد النصى، العالم “زينتز” قائلاً:

النقد النصى لا يزود الطالب بعصا سحرية !!

الخلاصة: اليوم فقد صار من حق المسلمون أنفسهم أن يتساءلوا منتظرين الجواب ممن يزعم الوصول الى النص الأصلى عن:

 من ومتى وكيف ولماذا حرف النص المقدس !!
 
-------------------------------------------
[1] البابا شنودة - اسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدس، ص103-105
[2] Matthew 15:14
[3] Metzger, Explicit References in the Works of Origen
[4] على سبيل المثل أشار (أوريجانوس) الى ان كلمة -توبوا- بإنجيل متى 4/17 غير موجودة فى بعض المخطوطات اليونانية والتى لم يعد لها اى وجود اليوم ولا يوجد اى مخطوط يوناني يحذف تلك الكلمة، كذلك إشارة (جيروم) الى ان القراءة الأصلية بالمخطوطات اليونانية كانت تقول (إساف النبى) إلا ان بعض النساخ حرفوها الى (إشعياء النبي)، اليوم لا يوجد اى مخطوط يوناني ولا غير يوناني يتضمن قراءة (إساف).
[5] Eldon Epp, and Gordon Fee, Studies in the Theory and Method, p31
[6] Richard. Bently, The Works, p477
[7] Metzger B. M., The Text of the New Testament 1968, p124
[8] Westcott, B. F., and F.J. A. Hort, The New Testament in the Original Greek
[9] Metzger B. M., and B. D. Ehrman, The Text of the New Testament, p175
[10] Eldon Epp, and Gordon Fee, Studies in the Theory and Method , p12
[11] Kenneth Clark, Today's Problems with Critical text, p158
[12] Ernest Colwell, Scribal Habit, p371 - المائل مضاف للسياق -
[13] Kenneth Clark, Today's Problems with Critical text, p161
[14] Jacobus H. Petzer, The Papyri and New Testament Textual Criticism, p22
[15] وقت تقديم "هورت" لمنهجيته لم تكون البرديات الشهيرة 75 و45 و66 قد أكتشفت بعد.
[16] Eldon Epp, and Gordon Fee, Studies in the Theory and Method, p94
[17] B. H. Streeter, J Theol Studies (1935), p178
[18] Westcott, B. F., and F.J. A. Hort, The New Testament in the Original Greek, p251
[19] Ibid 2, p150-151
[20] Aland and Aland, The text Of New Testament, p14
[21] Jacobus H. Petzer, The History of the New Testament Text, p25
[22] Eldon Epp, The Theological Tendency of Codex Bezae, p36
[23] Colwell, What is the Best New Testament?, p70
[24] A. F. Klijn, An Introduction to the New Testament, p196
[25] Gordon D. Fee, Textual Criticism of the New Testament, p431
[26] Helmut Koester, The Text of the Synoptic Gospels in the Second Century, p19
[27] Eldon Epp, The Twentieth Century Interlude in NT textual criticism, p398-399
[28] Jacobus H. Petzer, The Papyri and New Testament Textual Criticism, p22
[29] Kenneth Clark, The Effect of Recent Textual Criticism, p38
[30] Eldon Epp, Decision points in nt textual criticism, p96
[31] Ibid, p102
[32] D.Parker, Textual Criticism and Theology, ExpTim 118:12, p586
[33] Calvin L. Porter, A Textual Analysis of the Earliest Manuscripts of John, p31

هناك تعليق واحد:

Tarek Ahmed Ezzeldin يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

رائع يا استاذ ايمن موضوع قيم جدا